آخر المواضيع
تحميل ...

الأحد، 23 أكتوبر 2016

ذاكرة منطقة: حاحة/حاحا بين الأمس واليوم


ذاكرة منطقة: حاحة/حاحا بين الأمس واليوم

تعد قبيلة حاحة في عرف النسَّابين من قبائل مصمودة من جملة شعوب البرانس، وحاحة اسم قديم، ضارب في أعماق التاريخ منذ ما قبل الإسلام، كما يطلق اسم حاحة أيضاً على المجال الجغرافي الذي تستوطنه هذه القبيلة فيقال (بلاد حاحة)، وللاختصار تم حذف كلمة بلاد، فأقتصر على إطلاق حاحة على الموطن، وتختلف حدود بلاد حاحة باختلاف العصور، فهي في القديم ـ كما في كتاب العبر والاستقصا – تطلق على منطقة شاسعة تمتد إلى بلدة تادنست من جهة القبلة، وتجاور دكالة غرباً، وتمتد بسيطاً إلى السوس، ومن ناحية الغرب يمتد الساحل المتميز بخليج ظل المنفد الرئيسي نحو العالم الخارجي، حيث أسس فيه أمراء حاحة قلعة الصويرة وقلعة أكَادير منذ ما قبل الإسلام.
وفي القرن 12 ميلادي، تقلص موطن حاحة من الشمال بسبب دخول العرب الهلاليين الذين استقدمهم يعقوب المنصور الموحدي من إفريقيا، فقد تدفق هؤلاء على السواحل بالشاوية ودكالة فاختلطوا بالسكان الأصلين، ونشروا في مناطق عدة لغتهم وأعرافهم وتقاليدهم، فأخذت مناطق (كدكالة وعبدة والشياظمة) تفقد خصوصياتها الأصلية المرتبطة باللغة والتقاليد والأعراف، وهكذا تقلص موطن حاحة ليقتصر على منطقة محصورة بين مدينتي الصويرة شمالاً وأكادير جنوباً، تستوطنه اثنتا عشرة قبيلة حاحية متجاورة على الشكل الآتي::
– الصف الساحلي: إداوْكَرض ـ إداوِسَارن ـ إداوكِّيلُّول ـ أيْت أمْر.
– الصف الوسطي الهضبي: إنْكَنافْن ـ إمْكَرادْ ـ إدَاوْكَازُّو ـ إداوْتغُمَّا.
– الصف الشرقي الجبلي: أيْت زَلْطنْ ـ إداوْزَمْزمْ ـ إداوْبُوزْيَا ـ أيْت عِيسِي.
وشكل موقع حاحة وسط المغرب جسراً رابطاً بين شمال المغرب وجنوبه، فإنها تمثل قطب الرحى للحوادث التاريخية، وللتفاعلات الثقافية والحضارية التي عرفها المغرب على مر العصور، فتألقت بسبب ذلك أسماء حاحية لامعة في مجال السياسة والدين والأدب كأمثال العبدري الحاحي، وسعيد بن عبد المنعم الحاحي، ويحيى الحاحي الأديب السياسي، والقائد الحاج عبد الله الحاحي، وأنفلوس الحاحي وغيرهم.
وفيما يخص علاقة حاحة بالمخزن، يبدو أنها كانت من إيالة البرغواطيين في بعض الأوقات التي تقووا فيها، وامتد نفوذهم في (تامسنا) على ساحل البحر إلى (ماسة) بسوس، ثم لما اندفع اللمتونيون من الجنوب كانت حاحة والشياظمة (ركراكة) أول باب فتح لهم إلى الحوز، لأن الركراكيين والدغوغيين الذين عمروا في القرون الهجرية الثالث والرابع والخامس منطقة الحوز إلى رباط شاكر على مسيل وادي نفيس، كانوا دائماً ضد البرغواطيين، فلذلك مدُّوا أيديهم للمرابطين، ثم كثر ذكر حاحة بعد ذلك في الدوائر المخزنية.
وفي العصر الموحدي ناصر أهل حاحة دعوة المهدي بن تومرت في بداية أمرها، وفي عام (541هـ/1146م) ارتد الحاحيون مع من ارتد من قبائل مصمودة عن المذهب الموحدي، لذلك وجه عبد المومن إلى حاحة جريدة بالوعظ والاعتراف على يد قائديه المخلصين وهما: صهر أبي سعيد ـ كما يعرف ـ وعثمان بن مناد، فقتلا من الحاحيين من أهل التخليط والمعاندين ثمانمائة.
وفي العصر المريني ظلت حاحة تعيش على شكل أحياء صغيرة تحيط نفسها بدائرة من الأسوار، وغالبا ما يحكم هذه الأحياء أعيان محليون يديرون شؤون قبائلهم الصغيرة الملتفة حول قلاع (ايكَيدار) على شكل مخازن للحبوب وغيرها من ممتلكات الأسر، وحول هذا المخزن (أكَادير) تتشكل الأحياء الامازيغية في الجنوب مند قرون إلى أن ظهر الحكم السعدي حوالي عام (918هـ/1512م)، فخلقت هذه التجمعات السكنية بحاحة وإيداوتنان عدة صعوبات للمخزن السعدي، ولكنها لم تلبث أن اختفت واحدة تلو الأخرى بسبب هجمات البرتغاليين والأعراب الذين دمروا عدداً كبيراً من تلك القلاع التي سماها الحسن الوزان بمدن حاحة، فوصف عمرانها وما آلت إليه من خراب. وكرد فعل على التخريب الذي تعرضت له البلاد، ظهرت بحاحة القوى الدينية التي عمل الإمام مَحمد بن سليمان الجزولي على إحيائها وسط الفوضى التي عمت المغرب، وفي هذا الوقت كانت منطقة حاحة في طريقها لتصبح قبيلة مخزنية يحاول الشرفاء السعديون المستقرون (بتسكَدلت) أن ينظموها لصالحهم، وظهر في كل جهة زهاد متصوفون أمثال: الشيخ سعيد بن عبد المنعم (ت935هـ) وتلميذه الصالح إبراهيم بن علي التغانيميني التناني (ت989هـ) الذين استقطبوا سكان قبائل حاحة وإيداوتنان، فأسسوا زوايا كبيرة وغنية تحت تأثير الحماس الشعبي إلى الجهاد ضد نصارى البرتغال المحتلين للموانئ الأطلسية، وقد اكتسب هؤلاء الزهاد المتصوفون ثقة السكان وولاءهم بفضل ما بذلوه من جهود صادقة في الدفاع عن الحق وحماية الرعية من الحكام الأجانب، فقاموا بينهم مقام أهل السلطة الزمنية في تسوية النزاعات القبلية، وتنظيم الشؤون الثقافية والاجتماعية للسكان في ظل الدولة السعدية الشريفة.
وفي ظل الدولة العلوية تحولت حاحة بالخصوص إلى قبيلة مخزنية في عهد مولاي رشيد (1075-1082هـ)، وأخيه مولاي إسماعيل (1082-1139هـ)، فعندما سلك الأول طريق حاحة على رأس الثمانينات من القرن الحادي عشر الهجري لم يلق أي مقاومة في هذه المنطقة إلاَّ من طرف سكان جبال إيداوتنان الذين قرروا حمل السلاح في وجهه عند نقطة (كَابْ غِيرْ) جهة أكادير، فواجههم السلطان المولى رشيد الذي كان يقود جيشاً مكوناً من 75 ألف جندي، وفي عهد المولى إسماعيل أصبحت سوس ملجأ للطامعين والمغامرين، وتوالت الحملات التأديبية بدون توقف، وكانت تمر غالباً عبر بلاد حاحة، ثم أصبح البلد مسرحاً للحروب بين أبناء السلطان المولى إسماعيل، فبقيت حاحة في الأطراف متمتعة باستقلالها إلى أن جاء عهد سيدي محمـد بن عبـد الله (1171-1206هـ) فانضـمت إليه حاحة ـ دون إيداوتنان المتمنعة بجبالها ـ وانخرطت في سلك النظام المخزني، لكن رؤساء حاحة في عهد الحكم الذاتي، أمثال: علي يعيش الزلطني، وأغناج، والزرهوني محمد بن مبارك الحاحي، توجسوا خيفة مما اقترفته أيديهم، فرأوا أن يرسلوا إلى السلطان إنساناً هو منهم بمنزلة القدم من الراكب، فعمدوا إلى الطالب محمد بن بيهي أومولود ـ وكان شريفاً من آل الشيخ سيدي سليمان بوتيت دفين أبَايْنُو قرب كلميم ـ فدفعوا له فرساً وهدية يقدمها عنهم إلى سيدي محمد بن عبد الله الذي نزل بمحلته في ذلك الحين بالشياظمة، وقد أرسل إليهم بملاطفة لعلهم يدخلون فيما دخلت فيه قبائل الحوز ومراكش، فمثل محمد بن بيهي بين يدي السلطان وأدّى التحية وأبلغ خضوع حاحة، واعتذر عن الرؤساء المشهورين الذين تخلفوا عن الحضور أحسن اعتذار، فأغضى الملك وأظهر أنه اكتفى به، ثم عرض عليه أن يكون هو بنفسه واسطة بينه وبينهم، فناوله ظهير القيادة وخلع عليه من نعمه، وحمله على فرس مطهم، ووهب له قينة جميلة على العادة المتبعة، وبذلك ملك محمد بن عبد الله زمام حاحة من (1182هـ/1768م). ومنذ عهده أصبحت حاحة قبيلة مخزنية تحكمها أسر حاحية مشهورة تتسلم ظهائر القيادة من السلاطين العلويين أمثال: – قيادة آل بيهي أوملود (1182هـ/1768م – 1288هـ/1871م). – قيادة إنفلاس الحاحيين (1282هـ/1871م –1331هـ/1912م). – قيادة أيت عدي النكنافيين التي تناوبت مع إنفلاس على الحكم في حاحة الشمالية. – قيادة آل المحجوب الكِّيلُّوليِّين بتمنار (1299هـ/1881م –1351هـ/1932م). – قيادة آل تِكْزِيرِين التامريين (1290هـ/1873م –1377هـ/1957م). – قيادة آل بُويْفَنْزِي بإدَاوْبُوزْيَا (1299هـ/1881م –1373هـ/1953م). ويبدو أن روح المقاومة والنضال في سبيل نصرة الحق والمشروعية متأصلة في قبائل حاحة مع ما يتطلبه ذلك من صفات الشجاعة والإقدام والتضحية، وتشهد بذلك الحروب التي خاضوها ضد المارقين من برغواطة، وكذلك جهادهم ضد البرتغال الغزاة لسواحل بلادهم، تحت لواء كبار علمائهم ومتصوفيهم من شيوخ الزوايا أمثال: مَحمد بن سليمان الجزولي (ت870هـ/1465م)، وسعيد بن عبد المنعم الحاحي وغيرهما ممن رفع راية الجهاد والنضال من العلماء والرؤوساء، لذلك نجد قبائل حاحة تعتبر نفسها مندمجة في نظام تحالف إيكَزولن بالجنوب، وبهذه الصفة شارك الحاحيون في حرب سهل سوس والأطلس الصغير وتازة بزعامة قواد مخزنيين أشداء يحسب لهم حسابهم لدى ملوك زمانهم. وبالنسبة للتقسيم الإداري الحديث، فمنطقة حاحة تقع في الجزء الجنوبي من إقليم الصويرة، وتقدر مساحتها ب 45 ألف متر مربع، يحدها من الشمال الغربي مدينة الصويرة، ومن الشمال الشرقي قبيلة (الشياظمة)، ومن الشرق قبائل (إيمي نتانوت)، ومن الغرب المحيط الأطلسي، ومن الجنوب مدينة أكادير، مع الإشارة إلى أن قبيلة (آيت آمر) تابعة لإقليم أكادير إدارياً، رغم أنها من صميم قبائل حاحة. ورغم التغير الحاصل في نمط عيش ساكنة حاحة بفضل تحسن ظروف المعيشة، إلاَّ أن السمة الغالبة على سكان حاحة هي محافظتهم على تقاليدهم الأصيلة، وتمسكهم بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، يقول عبد الوهاب بن منصور مؤرخ المملكة المغربية رحمه الله: ((وقد اعتنق الحاحيون الإسلام على غرار ما فعله المغاربة كلهم إبَّان الفتح الإسلامي، وكانوا يدافعون عنه خير دفاع، فنجدهم خضعوا للفتح بدون مقاومة، بل انضموا إلى جانب المسلمين كغيرهم من البربر ضد البيزنطيين…)). ومن الناحية الإقتصادية؛ ونظرا لقساوة طبيعة المنطقة ومناخها، فإن أغلب الساكنة يتميزون بالقناعة وبساطة في العيش، ويعتمد الحاحيون بالدرجة الأولى على الفلاحة والزراعة والصيد البحري وتربية المواشي، واستغلال الأشجار المثمرة، كما تتميز المنطقة بشساعة مجالها الغابوي الذي تغطي نصف مساحته شجر الأرْكَان الذي يلعب دورا أساسيا في حماية التربة من الإنجراف وتغدية الماشية، كما ينتفع السكان من غلة الأركان، حيث ظهرت بالمنطقة مؤخرا عدة تعاونيات لاستخراج زيت أركان وتسويقه في اتجاه جميع أنحاء المعمور، وتختص قبائل حاحة في تربية الماعز نظرا لتكيفه مع طبيعة المنطقة، وأشهر الأطعمة عندهم؛ الطاجين بلحم الماعز والزيت أركان وخبز الفرن التقليدي (أَفَرْنُو، أو أَفَنْرُو)، ثم الكسكس، والعصيدة، والحساء، والزبدة، والسمن الحر، والحليب، والعسل الذي يصنف ضمن أجود أنواع العسل بالمغرب خصوصا عسل الزعتر (تَزُوكُنِّيتْ)، كما عرفت المنطقة بزيت أركان الذي خص الله به هذه المنطقة دون غيرها. ومن أجمل ما قيل في وصف بلاد حاحة، منظومة للعلامة الحسن إبندو رحمه الله، نورد منها بعض الأبيات: «حاحا» الحبيبة إن راحك راحي***حييت يا «حاحا» تحية حـــــاحي بلدي العزيز رأيت حبك في الحســا***أمضى من الأسيــاف والأرمـــاح مرحى أيــا «حاحا» ففيـك صباحـة***وصبـابـة في قلـــبي الـممـــراح […] لحـــــن يلــــــذ ويشتهـي تلحينـه***أحلى من أحلام الشباب الحاحـي سحر حـلال فــي حمـــاك وروعـــــة***منقوشـة لـــم يمحهــا من مـــاح جبـــــل وسهـــل غابـــــة بــــر وبحـ***ـرجنة الفـــــــلاح والمــــــــلاح وجـــداول يجــــري بهـــا مـاء اليــنا***بـع النميــــــــر العــذب للميــاح ومرابـــــع فيحــا تظللــهـا العِضــا***هُ الوارفــات وباســـق الأدواح ومصـايـــــف جبليـــة لــونــا لهــا***شيء مـن التجهيـز والأصـــلاح ومخـايـم وشــواطـــــيء سـاحتهــا***تكتـظ وقـت الحــر بــالسيــاح هذي الصويرة في الشمال وفي الجنـ***ـوب أكادير رست علــى المجداح تلك العروس عــروس حســن بـاهـر***ذات الحـدائـق والبنـا الطرمـــاح طـرفا الوشـاح مطــــرزا بجـواهـــر***من كل سـوق تجـــارة فيـــــــاح تمنــار بينهمــــــا كنقطـــــة مركــــز***أو زهـــــــرة أو وردة الأريــاح ومن الناحية الثقافية، فالمنطقة عرفت بتعاطي العلم مند عهد الدولة المرابطية، وبلغ عدد المدارس العلمية بالمنطقة إلى العهد الحالي أكثر من خمسين مدرسة (يقصد المدارس العتيقة: لتحفيظ القرآن الكريم والعلوم الأخرى الشرعية منها، والأدب، والحساب، والفلك …)، كما أن بالمنطقة أزيد من ألف مسجد، أسهم هذا كله في نبوغ عدد وافر من الفقهاء واللغويين والمحدثين والمتصوفين والأدباء والرحال في حاحة، ومن أشهر الشخصيات اللامعة في مجال الرحالات أبو البركات العبدري صاحب الرحلة المغربية إلى بلاد المشرق، وفي المجالات العلمية الأخرى نذكر: أبو زكرياء يحيى الحاحي دفين ضواحي سميمو، وأبو سعيد المترازي صاحب كتاب (منار العلم)، وأبو عثمان سعيد بن عبد النعيم المناني صاحب كتاب (العقائد والتوحيد)، وولده عبد الله بن سعيد مؤلف لرسائل في شتى الميادين، وولده يحيى بن عبد الله الذي عُدَّ من كبار الأدباء، والعلامة مولاي محمد البوسعيدي العيسي مؤلف (مجموع أمل الأخوان في أجوبة أبي العباس أحمد بن سليمان)، والمؤلف الصوفي الكبير سيدي محمد بن سليمان الجزولي صاحب (دلائل الخيرات)، والإمام البارع أبو علي الحسين بن علي الشوشاوي الرجراجي مؤلف (الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة) و(تنبيه العطشان على مورِد الظمآن) وغير ذلك. ونختم بذكر بعض المدارس العلمية والقرآنية بحاحة، مع الإشارة إلى أن لكل قبيلة من قبائلها أربع أو خمس مدارس، مما كان لها دورا إشعاعياً في نشر العلم وتكوين العلماء، ومن بين هذه المدرس: – مدرسة العبدري أبي البركات. – مدرسة إِفَرْضْ أوْطَاهَا. – المدرسة الجزولية. – مدرسة سيدي أبي زكريا يحيى (بقبيلة إدَاوِيسَارْن). – مدرسة سيدي حْسَا أوْحسَايْن. – مدرسة إيكِّي مَهنْدْ. – مدرسة سيدي عبد الواسع. – المدرسة المَحْصَرِيَّة. – مدرسة أدُوز سيدي منصور. – مدرسة أيمي واسيف نايت آمر. وإنما ختمت هنا بالجانب العلمي، لأن بالعلم تحيا الحضارات والأمم، والعلم سواء الشرعي أو العملي، وبالعلم يفتخر الأبناء بأمجاد أجدادهم، وبالجهل يسود الظلام والانحراف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق